بقلم د. أيمن نور
<.. مصر باتت من البلدان القليلة فى العالم، التى ينام فيها المواطن، قرير العين، وهو برئ، ويستيقظ من النوم، ليكتشف أنه مُدان بحكم قضائى، لم يصل لعلمه شئ عنه، ولم يصدر فى مواجهته، ولم يُعلن به، ولم يتمكن من الدفاع عن نفسه، بنفسه، أو عبر وكيلاً قانونيًأ عنه..
<.. لم يدهشنى، أو يصدمنى، ذلك الحكم الغيابى، الذى أصدرته محكمة جنح بسجنى “خمسة سنوات” بدعوى إذاعة أخبار كاذبة.
<.. منذ سنوات قُلت “من يدخل الغابة، لا يخشى حفيف الأشجار” فالذين يولدون فى العواصف، لا يفزعون من زئير الرياح..
<.. لا تسعفنى الذاكرة، فى رصد عدد مرات دخولى، وخروجى، من سجون الظلم والإستبداد، فى نهايات عهد السادات وفى نهايات عهد مبارك .. دخلتها تلميذًا، وطالبًا، وكاتبًا، ونائبًا، ووصيفًا للرئيس الأسبق، عندما قرر أن يسجنى – أيضًا – “خمسة سنوات”
بعد أيام من خوضى إنتخابات نافسته فيها، وحللت فيها ثانيًا.
<.. فى كل مرة تهددنى السجن، أدركت بضعف خصمى، وعجزه، وقلة حيلته، ورغبته فى إقصائى..
عندما أُعتقلت من داخل البرلمان قبل إنتخابات الرئاسة فى يناير 2005، قال لى أحمد عز “واللهى ما احنا” قاصدًا هو وصديقه جمال مبارك – مضيفًا – : احنا كنا فى منتدى دافوس الإقتصادى، وعملوها من ورانا – قاصدًا – مجموعة مبارك الأب.
<.. وعندما أُعتقلت للمرة الثانية بعد الإنتخابات الرئاسية بأيام، أرسل لى كمال الشاذلى رسالة شفوية إلى سجنى يقول فيها : “واللهى ما احنا” مشيرًا إلى أن إبعادى بإعتقالى له صلة بإفساح المجال لجمال، مشيرًا لدور السيدة الرئيسة ومجموعة جمال.
<.. وما قاله أحمد عز، وبعده كمال الشاذلى قاله لى غيرهم – بعد خروجى – فكان إعتقالى لسنوات، تهمة تبرأ منها الجميع “سرًا” ويصمتون تجاهها علنًا، هكذا فعل فتحى سرور، وزكريا عزمى، وحسام بدراوى، وعمر سليمان، وصفوت الشريف، وعلى الدين هلال، ومحمد إبراهيم سليمان، ومصطفى الفقى، وغيرهم من رموز نظام مبارك.
<.. أعترف أن الوحيد الذى لم يتبرأ من المسئولية عن هذا السجن، هو شخصى الضعيف، الذى كان يدرك من اللحظة – الأولى – التى قرر فيها المواجهة، أن السجن والتشوية والتنكيل والإيذاء، هو الحد الأدنى، للثمن المستحق، لمواجهة نظام ظالم.
<.. يوم أن قررت دخول المعركة رسميًا، عدت من الحزب لمنزلى مهمومًا، فسألتنى أم أولادى، عن سبب همى، فقلت لها قررت أن أضع رأسى على كفى اليمنى وأخوض المعركة ضد مبارك فقالت لى رأسى – أيضًا – على كفك الأيسر ولا تنظر خلفك مهما كان الثمن والتضحيات.
<.. وعندما اعتذرت عن قبول الدعوة لإجتماع 3/7/2013، كنت على يقين أنى اتخذ قرارًا بحجم خطورة ومخاطرة قرارى فى 2005 بإختلاف موقعى من الحدث، كان قرارى مبدئيًا يوم 3/7 كما كان مبدئيًا فى 2005.
<.. أعترف كان قرارى مجنونًا، وخارج حسابات العقل، والمصلحة، لكنه كان متوافقًا مع قناعاتى وإيمانى، أن مصر تستحق ما هو أفضل من رئيس استنفذ كل ما لديه فى (24 عامًا) ووريث كل مؤهلاته أنه أبن الرئيس، وكذلك كانت قناعتى فى 3/7 أن مصر بعد ثورتها العظيمة من أجل الديمقراطية ينبغى ألا تسقط مرة أخرى فى يد الحكم العسكرى، وتتجاوز صندوق الإنتخابات الرئاسية الحرة الوحيدة التى شهدتها مصر – بغض النظر عن أخطاء الأخوان أو الخلاف أو الإتفاق معهم –
<.. أعترف منذ 3/7 وأنا أشم رائحة السجن، ربما منذ إعتقال الصديقين عصام سلطان وأبو العلا ماضى، والزميل محمد العمدة.
<.. أعترف كنت على يقين أن النظام يتوحم على لحم كل من ليس معه، بل سيستدير ليأكل كل من كان معه، كما تفعل كل الإنقلابات..
<.. أعترف كنت أنتظر تلك اللحظة، وأندهش من تأخرها، والإكتفاء ببعض الإجراءات التعسفية الحمقاء، على غرار منع تجديد جواز سفرى وغيرها.
<.. أعترف أن الحكم الصادر ضدى غيابيًا أضحكنى كثيرًا ربما أكثر مما أحزننى، فقد عملت بالصحافة والسياسة والقانون 35 عامًا، كتبت فيها آلاف المقالات والأخبار، ولم يُنسب لى يومًا تهمة نشر أخبار كاذبة.
والغريب أن يحدث هذا بعد أن تركت مجال التحرير والكتابة، وأكتفى فقط بدورى الإدارى كرئيس مجلس إدارة قناة الشرق .. وهو موقع لا يجوز معه محاسبتى جنائيًا بل مدنيًا فى حدود التعويض كما قضت المحكمة الدستورية العليا..
<.. ورغم هذا أعترف أن التهمة الملفقة ربما تكون حقيقية إذا كنت أنا قلت وأقسمت أنه ليس لدى أطماع أو رغبة أو مطمع فى حكم ثم كذبت وترشحت.
أعترف أنى نشرت أخبارًا كاذبة عن علاج مرضى الكبد والإيدز بالكفتة وثبت كذبى.
أعترف أنى نشرت أخبارًا كاذبة عن أن مشروع قناة السويس غطى تكاليفه وثبت كذبى.
أعترف أنى نشرت أخبارًا كاذبة عن رخاء قادم بعد عامين ومروا وثبت كذبى.
أعترف أنى نشرت أخبارًا كاذبة عن مشروع مثلث التعدين وثبت أنه وهم ولم يرى النور.
أعترف أنى نشرت أخبارًا كاذبة عن مشروع المليون وحدة سكنية وفشل المشروع بإنسحاب الشركة الإماراتية المنفذة أرابتك وكذلك مشروع المليون فدان وثبت كذبى.
أعترف أنى وعدت بالقضاء على الإرهاب المحتمل ونجحت فى أن أصنع إرهابًا غير محتمل.
أعترف أنى قلت للأشقاء العرب “مسافة السكة” وأخذت السكة الأخرى.
أعترف أنى نشرت أوهامًا وأكاذيب كشفت الحقائق زيفها وتضليلها للناس مثل عدم إرتفاع الأسعار رغم إنخفاض قيمة الجنيه وعدم التفريط فى الأرض وكانت تيران وصنافير وقبلها إتفاقية النيل وحقول غاز البحر المتوسط.
<.. إن مستشارى السيسى لا يجيدون شيئًا أكثر من إجادتهم توريط الرجل فى أكاذيب وأوهام وتلفيق قضايا لا تجلب عليه غير العار والسخرية.
<.. نعم فالحكم غيابيًا فى مثل هذه القضية لن يمنعنى من شئ ولن يحقق له ما كان يبغيه من إصدار هذا الحكم فى “جنحة” يسقط الحكم فيها بمجرد تقديم طلب بإعادة الإجراءات..
<.. أعترف لكم أنه كان لدى يقين عندما سجننى مبارك أو نجله خمسة سنوات أن مبارك الأول أو الثانى لن يستفيد من سجنى وهذا ما حدث.
<.. وأعترف لكم أنه لدى يقين أن مبارك “الثالث” – السيسى – الذى استصدر على عجل حكمًا بحبسى خمسة سنوات بعد خمسة أيام من تقدمى بطلب للحصول على شهادة بالحالة الجنائية، لن يستفيد هو الأخر من ذلك الحكم، وستثبت لكم الأيام صدق هذا اليقين.
جريدة زوايا